صدر عن الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت، ودار الأمان بالرباط، ومنشورات الاختلاف الجزائر كتاب جديد يحمل عنوان:" العنوان في الثقافة العربية: التشكيل ومسالك التأويل" للأستاذ محمد بازي، يضم الكتاب مقاربات في إستراتيجية تسمية النصوص، لينضاف بذلك إلى سلسلة الأبحاث التي جعلت العنونة موضوعا لها. غير أن الجهد المبذول في هذا الكتاب يتوجه تحديدا إلى بعض مظاهر العنونة في الثقافة العربية القديمة، وبعض مظاهر التسمية التي أمكن اعتبارها بديلا للعنوان، بهدف إعادة قراءتها من زاوية تأويلية ومعرفية، مع التساؤل عن أبعاد العنونة في القرآن الكريم، والشعر القديم، وعناوين الكتب والرسائل قديما، وحدود التوازي والتقاطع بين النص وعنوانه.
انصرف اهتمام المؤلِّف كذلك إلى بعض مظاهر العنونة في نسقنا الثقافي الحديث، وفي المجال التربوي خاصة، محاولا تقديم أدوات تأويلية لفهم العناوين، وجعلها مداخل حقيقية لقراءة النصوص في سائر التخصصات المعرفية، معتمدا بعض مفاهيم تأويلية التقابل والإمكانات الثرية التي يوفرها هذا المنهج.
يهدف الكِتاب إلى شد انتباه القارئ العربي إلى مسألة العنوان باعتباره نصا مصغرا، ثم تمكين محللي النصوص ومؤوليها ـ في السياقين المدرسي والجامعي خاصة ـ من بعض أدوات مقاربة خطاب العنونة، استنادا إلى خلفية تأويلية واضحة، وإلى بعض المقترحات في نظريات العنوان الحديثة، داعيا إلى تطوير الدراسات في مجال العنونة في حقول أخرى، إعلامية، وثقافية، واجتماعية، وتواصلية، يستفيد منها كل من له ارتباط بالعنوان وضعا، أوفهما وتأويلا. ولاشك أن انفتاح الدراسات في هذا الجانب على العنونة في الصحف والمجلات والسينما والإشهار، وفي سائر الأنظمة التواصلية اليومية كالشعارات واللافتات، والإعلانات، من شأنه أن يحقق الفائدة لواضعي العناوين، ويسمح لمتلقيها بتأويلها على أحسن الوجوه.
نقرأ في مقدمة الكتاب ما يوضح هذه المطامح:
" تُتلقى النصوص و الخطابات باعتبارها بنيات لغوية ودلالية موسعة ومعها موازيات نصية تحدد هويتها، تسمها وتميزها داخل الثقافة المؤَطِّرَة التي تُتداول داخلها إلى جانب عدد هائل من النصوص والخطابات. ومن هذه الموازيات الكثيرة العنوان، وهو ضرورة تأويلية وإنتاجية؛ فالناص(المنتج) يحاور نصه يؤَوِّل مقاصده ويحوِّلها إلى بنية مختصرة ومختزلة، فيركب ويعيد التركيب وفق منطق استبدالي تيماتي أو جمالي، أو تيماتي و جمالي معا، لصياغة عنوان مطابق أو شبه مطابق للمحتوى النصي، أو مراوغ لدى الباحثين عن جمالية التنافر والتمويه، خاصة في مجال الإبداع الأدبي.
ونظرا للأهمية التي يمثلها العنوان في علاقتنا مع ما حولنا من مؤسسات، ومؤلفات، وخطابات، وأنظمة ومواقع الكترونية... أصبح لازما خلق تصورات وأفكار داخل نظرية النص وتحليل الخطاب، تسعف المنتجين وكذا المتلقين في امتلاك قنوات تأويلية ومواقع خبيرة بسيمياء العنوان، وحدود ارتباطاته بالنص المُعَنوَن.
إن العنوان في كل الأحوال علامة دالة محيلة على شيء أو موحية به، وبنوع من الشمولية يمكننا الحديث عن" العنوان الثقافي"،وضمنه عناوين الأشخاص، والمؤسسات، والمنازل، والسلع، وغيرها. وكثيرا ما يتواصل الناس عبر عناوين مخصوصة تحدد المعنيين بالرسالة. كما يتم الاتصال بالأشخاص عبر عناوين منازلهم، فيُختزل المرسَل إليه في مجموعة حرفية ورقمية دالة على أمكنة معينة، وعلى ترتيب خاص . وتتردد بين الناس في مناسبات عديدة العبارات التالية:ما عنوانك ؟ أعطني عنوانك، راسلني على العنوان التالي، ما عنوان مؤسسة كذا ؟...
تبعا لهذه الوظيفة التعيينية والتخصيصية التي تقوم بها العناوين في حياة الناس بشكل عام،فإن الاهتمام بجودته وجماليته أصبحا مظهرين حضاريين وثقافيين؛ فالتعدد الحاصل في نسقنا الثقافي والتعقد الذي يصحبه، حتم إيجاد وسائل تميز الهيئات والأشخاص والأمكنة والأشياء؛ حتى يسهل الاتصال بها أو الوصول إليها عند الضرورة. والمتأمل فيما حوله من أشياء منزلية وأجهزة، يجد أن لكل منها اسما وعنوانا يحدد هويتها، ومصدرها، ونوعها، ورقمها، وغير ذلك من الأشياء المُبينة عن أصلها، ومادتها، وأدوارها، الأمر الذي يُحتِّم الحديث عن عناوين ثقافية، يعيش داخلها الناس في بيوتهم، و في الشارع، و السوق، و المحطة أو الشركة ...وغيرها.
ليس عنوان الكتاب إلا مظهرا من مظاهر العنونة التي تقود وتوجه الناس على اختلاف شرائحهم، وفي حياتهم العامة أو الخاصة إلى مصالحهم وأغراضهم اليومية . و دور العنوان بشكل عام هو تمييز الأشياء، تخصيصها وحصر حيزها المكاني أو الدلالي الذي توجد فيه، أو الإشارة إلى شيء بعينه (مكان، كتاب، جهاز، شخص أو مؤسسة ..).وإذا كانت إستراتيجية العنونة بارزة المعالم في ثقافتنا اليوم، وبالأخص في مجال التأليف والدراسة والتلقي عامة، فإن العودة إلى بعض مظاهر العنونة التراثية ودلالاتها وأبعادها يعتبر هدفا بارزا في هذه المقاربات من خلال الاشتغال على بعض النماذج".
قراءة ممتعة ومفيدة...